مزيل رائحة الأرق |من قصص البخلاء الظرفاء

مزيل لرائحة الأرق

كان حسين زيان زميلنا في الكلية وصديقنا المقرب من أبخل من يمكن أن ترى وكان في نفس الوقت من ألذ من يمكن أن تقابل.

وكنا نحن نعتبر طريقته في التعبير عن بخله جزءا لا يتجزأ من لذاذته فإذا طلبت منه سيجارة على سبيل المثال قال لك باستنكار أملس { عيب بقا عيب بقا الناس بتتفرج علينا} ولكن فرجة الناس لا تمنعه من أن يأخذ منك سيجارة أو أكثر على حسب ما تسمح نفسك.

وكان يطيب لي أحيانا أن أتحسس جسمه السمين قائلا له يا سلام على لحمك يا حسين فتخرج منه ضحكات تشبه تنفيض السجاجيد.وأي شئ أدل على بخل حسين زيان من أنه قد ورث سيارة عن أبيه فلم يستعملها مرة واحدة مخافة ثمن البنزين فبقيت السيارة في الجراش إلى أن خربت!!!.وكان حسين حين يحدثك عن نفقاته يعتبر إنفاقه على نفسه نوعا من الغرامة فيقول لك مثلا { إمبارح ركبت الأتوبيس أنا وفلانة وفلانة وقطعت لهم وقطعت لنفسي وكعيت} ولا تعجبوا من قوله وقطعت لنفسي فإن حسينا كان يعتبر طعامه وشرابه وتدخينه ومواصلاته مسؤولية المحيطين به لا مسؤوليته هو.وأذكر أنه لقيني في كفتريا الكلية بعد غياب طويل فلما بدأت أعانقه قال بصرامة يتخللها ضحك { الحساب على مين عشان نبقا واضحين؟ } فقلت له { الحساب علي أنا كمل الحضن يا حسين!!!}.

قصة من قصص و نوادر البخلاء

picsart 02 24 01 optimized.08.37
قصة الأعمي و الصديق البخيل

وكانت فكرة استخراج سيجارة من حسين أصعب جدا من استخراج النفط والآثار ولم نكن نحن نبذل هذه الجهود الخارقة في الحصول على سيجارة من حسين طلبا للسيجارة نفسها بل رغبة في أن نرى رد فعله الذي كنا نعشقه أو رغبة في أن نرى كيف سيتخلص من هذه الورطة.

وأذكر أننا كنا مجموعة ضخمة من الأصدقاء نقف على كبري قصر النيل في ليلة من ليالي الصيف بعد عودتنا من ندوة أدبية وكان معنا حسين كما هي العادة فتقدم الشيطان الشاعر سمير فراج فقال لحسين { يا حسين أنا عايزك في موضوع مهم على انفراد} وعلى الفور وافق حسين فجرني معهما سمير بلا مناسبة وحين ابتعدنا عن المجموعة بعض الشئ قال له سمير { يا حسين أنا عايزك تفهمني جذور وتاريخ الحركة الطلابية } وكان الحديث عن الحركة الطلابية واللائحة هو أحب حديث إلى حسين في الدنيا، بل إننا لا نبالغ حين نقول إنه الموضوع الوحيد الذي كان حسين يفهم فيه.وحين بدأ حسين حديثه عن الحركة الطلابية قال له سمير { وَلع يا حسين عشان نعرف نفهم } وبالفعل أخرج حسين علبته التي لا تخرج إلا للعزيز الغالي وأعطى سميرا سيجارة وأعطاني مثلها وأشعل لنفسه ثالثة فلما التقط سمير النفس الأول من هذه السيجارة الميمونة ربت على كتفي وقال لي { ابقا هاته وتعالى!!} وتركنا وانصرف عائدا إلى بقية أصحابنا.

وأراد حسين أن ينتهزها فرصة ويحدثني أنا عن تاريخ الحركة الطلابية فقلت له على الفور { لأ لأ طلابية إيه ولايحة  إيه يا حسين أنا مش بتاع كدا أنا جاي أغسل بشرفي وعلى كل حال إخص على الزمن ابن اللايحة إلي حوجني لواحد زيك}.

وعدنا إلى الجماعة وحسين يتقطع حسرات على السيجارات الثلاث التي ذهبت سدى.

وذات ليلة جمعتنا سهرة حلوة بالأخ حسين زيان وقبل أن نفترق قال حسين ليتنا نجد مكانا نبيت فيه لكي لا نفترق فنفقد هذه السهرة الحلوة فقال الداهية المحنك ممدوح الشيخ ما قولكم في أن نبيت عند حسين؟ وسرعان ما لقيت منا الفكرة ترحيبا منقطع النظير فلما أحس حسين أننا مصرون عليها شهق شهقة كادت تذهب معها نفسه.

لأنه يعلم علم اليقين أن المبيت معناه العشاء، وأن العشاء سوف يستتبع الشاي والسجائر، وأن النوم على المراتب سوف يستهلكها بما قد يقصر عمرها.وأخيرا أذعن حسين للفكرة ووافق على أن نبيت عنده وفي الطريق إلى بيته أخذ حسين يردد { نفسي أعرف مين ابن الوسخة إلي طرح الطرح دا؟}.وقبل أن نبلغ بيته ببضعة أمتار همس حسين في أذن ممدوح قائلا له { يا ممدوح أربعة كتير قوي إيه رأيك ترجع إنت؟} وحين أخبرنا ممدوح بما قال حسين انفجرنا في الضحك وأصر ممدوح على البقاء وأصررنا نحن على أن يبقى ممدوح معنا.

وإذا كان الحصول على سيجارة من حسين أمرا لا يتم إلا بالعناية الإلهية فما ظنك بالعشاء والشاي في بيته؟ لهذا حين دخلت بيته أحسست أنني فقير كان يتمنى زيارة مسجد أم هاشم فأتيحت له العمرة، من هنا خامرني شعور عميق أن أقول وأنا داخل لبيك اللهم لبيك.وأخيرا دخلنا بيت حسين، دخلنا البيت الذي لم تستطع قطة أن تنال منه لقمة، واحتجت إلى دخول الحمام فقلت له { يا حسين أنا عايز أدخل الحمام حاضر} وأخذ يواصل حديثه وحالتي آخذة في الصعوبة { يا حسين أنا ما جبتش غيارات وعايز أخش الحمام حالتي وحشة حاضر} وكان حسين يتحدث باستفاضة ولا يريد أن يقطع حديثه لكي لا يسأله أحد عن العشاء والشاي، وحالتي تزداد تدهورا { يا حسين أرجوك عايز أخش الحمام حاضر} وبعد أن طال علي الأمد رأيت أن أخاطب عنصر البخل الذي فيه فقلت له {يا حسين يا ريت تفتكر إني أنا داخل أحط مش داخل آخد} وعندها فقط وبين ضحك الجميع قادني حسين إلى الحمام.

وكان حسين يرى أن العشاء ترف لا مبرر له وأظنه كان يتمنى في أعماقه أن نموت جميعا قبل أن ندرك الإفطار لهذا فقد جاءنا بالشاي الذي يعمل عمله في سد النفس.وبالفعل شربنا الشاي وبدأنا نتصفح ما يقتنيه حسين من جرائد ومجلات فقد نسيت أن أقول لكم إن حسينا كان في أيام الرخص يشتري كل يوم بجنيهات جرائد ومجلات.وعز علينا أن تنقضي الليلة دون أن يغتاظ حسين فتركناه حتى نعس ثم سكبنا على وجهه كوبا من الماء فقام فزعا يشتم ويسب ثم نعس ثانية فلما استغرق في النعاس أعدنا الكرة وسكبنا على وجهه كوبا آخر من الماء فقام أشد فزعا وأقبح سبابا من المرة الأولى.وضحكنا جميعا حين قام في المرة الثالثة فزعا دون أن تمتد إليه يد.

وأخيرا نمنا حتى الصباح وفي الصباح حانت اللحظة الحاسمة تلك اللحظة التي سوف يضطر فيها حسين إلى أن يأتينا بالإفطار وبالفعل جاءنا بالسم الهاري وبدأنا نأكل وفي منتصف الأكل قال حسين بتحسر { يا خبر نسيت أجيب الجبنة الفلمنك} فقلت له {إحنا فيها قوم هاتها} فقال ضاحكا { عيب بقا}.وبعد الشاي أراد حسين أن نغادر البيت فقلت له انتظر حتى أصلي الصبح وأعترف لكم أنه لم يكن في نيتي أن أصلي بل كنت أريد أن أبقى في بيت حسين أطول فترة ممكنة لأغيظه.ووافق حسين على أن أصلي فأدخلني الحمام فخرجت منه بدون وضوء ووقفت أقرأ سرا قصيدة الآتون من رحم الغضب للشاعر سمير فراج لأنها طويلة جدا جدا وسوف تأخذ وقتا طويلا وهذا هو عين المنى.

والحق أقول لكم لقد كان في نيتي أن أورط حسينا في الغداء ولكن { هو مين!!!}.وأخيرا استطاع حسين أن يجلينا عن بيته وفي طريق عودتنا إلى الجامعة أخذ حسين يقص علينا كرمه القديم في أيام العز، { آه يا أبو صلاح لو شفتني زمان لما كانوا زمايلي ييجو يزوروني كان الشاي ينزل، والقهوة تنزل، والحلبة تنزل، والسحلب ينزل} فقطعت حديثه ضاحكا وقلت له { يا حسين أظن إن الوحيد إلي كان بينزل هو الضيف!!}.ولم يفوت حسين هذه الفرصة فابتزنا على أكمل وجه في الكلية شاي وسجائر وأكل.ولعب الشيطان برؤوسنا بعد هذه الحادثة ببضعة أشهر فذهبنا لزيارته إلا أن حسينا في هذه المرة كان صارما صريحا واضحا فقام بطردنا من على الباب.

وكدنا جميعا نذهب إلى السراية الصفراء يوم أخبرنا حسين أنه سوف يدعونا إلى أكلة سمك ولم يقنع بهذا بل حدد لنا يوم الأكلة وفي اليوم الموعود اصطحب معه زميلين لنا ليحملا معه السمك من بيته.وطارت عقولنا بالفعل حين أتى حسين مع زميلينا ومعهم السمك، والخبز، والصلطات، والليمون، والمخللات.وكنا حوالي عشرة أشخاص فبدأ الهمس يدور بيننا عن سر هذا السمك العجيب فقال فريق والله لقد جن حسين، وقال فريق بل هذه طريقة أخرى في الانتحار لقد أراد حسين أن يصاب بسكتة قلبية حين يرانا نأكل طعامه، وقال فريق لا لا بل السمك مسموم وحسين يريد أن يتخلص منا جزاء ما غرمناه من قبل، وقال فريق ليس السمك مسموما بل انتهت مدة صلاحيته وتعفن وأراد الزبال أن يأخذ من حسين جنيهين مقابل التخلص منه فرفض حسين وقال للزبال بريال سوف أحمله إلى كلاب الجامعة فيأكلونه ويقبلون يدي.وكلاب الجامعة هم نحن طبعا، واقترح بعض أصحابنا أن نؤرخ بهذه الحادثة الجسيمة فنقول مثلا حدث هذا الأمر ق.س.ح أو ب.س.ح أي قبل سمك حسين أو بعد سمك حسين.ومن عجب أننا أكلنا السمك فكان في غاية الطعامة وبقينا ننتظر الموت أو المرض فلم يحدث شئ من هذا.

وبعد حوالي عشر سنوات من هذه الحادثة قال لي صديق مقرب كم مر على أكلة حسين؟ فقلت له حوالي عشر سنوات فقال رغم مرور هذا الزمن الطويل فإنني لا أصدق أننا أكلناها فقلت له ولا أنا والله!!.وحين علمت أن حسينا قد مات غريبا في بلد بعيد انصدع قلبي وذهبت نفسي عليه حسرات فلم أدر على أي حاليه أنا أشد حزنا؟ أعلى موته أم على اغترابه.نعم كنا نحتمل حسينا وبخله الشديد لخفة روحه فقد كان بالنسبة لنا أو لي أنا على الأقل عبارة عن مزيل لرائحة الأرق.صلاح الدين عبد الله

شارك
ِAhmed Abdulaziz
ِAhmed Abdulaziz

مطور و مبرمج ويب متخصص في الووردبريس , و في أحيان أخري كاتب
#احلام_الناس_لا_تنتهي

المقالات: 113

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *